،
أمسكت بالورق أبوح إليه عن أمر جميل أحبه، عن أشواق و حنين، عن آمال عن ابتغاء وسعي فكتبت ذكرى أغبص فيها من كتبت عنها.
…
في ذلك الصباح، في أول يوم لنا في المدرسة بعد العودة من الإجازة، كنت أجلس على زاوية أعمل وعلى بعد مني، كانت مجموعة من الفتيات تتجاذب الحديث، أوقفت عملي أثر حديثهن الذي كان كقبضة على القلب، حين سألت إحداهن من تعرف فلانة الفلاني؟ لقد توفيت صباح هذا اليوم.
كانت الوجوه تتساءل و تنكر سماعها لهذا الاسم بينما كنت أتجول في سحاب فكري أحاول تذكر الاسم، هي؟ نفسها؟ كنت أغمض أتمنى أن لا تكون هي، وأنتظرت المساء حتى اتحقق يقينا من الخبر.
ركبت السيارة بعد انتهاء الدوام، استقبلني والدي بسؤال: هل تعرفين أم فلان؟
صمتُ برهة حين أوشك الدمع على الهطول، ثم أردفت: يرحمها الله.
كان أبي يتمتم كذلك وهو يذكرها بالخير، إذ يتطلع في سيرتها الحسنة و مقدار العظمة التي امتلكتها، ماتت وقد حققت الكثير لهذه المدينة و أحيت فيها سننا، دلت على الكثير ممن طرق الخير ووفرت بيئة تحتضن الفتيات وتستثمر الطاقات، ماتت وقد أنجزت.
عندما يسعى المرء لهدف فإنه لا يرتاح حتى يبلغه، و حتى لو بلغه فإن همته تزداد ليحقق ما هو أعظم منه.
وهذا ما عرفناه منها.
تلك السيدة هي مديرة مركز نسائي ثقافي، حققت تحت قيادتها الكثير من المشاريع التي أدت إلى دخول الكثير من الجاليات في الإسلام، وإشغال الفتيات بالمفيد والنافع، وتربية الأطفال على أخلاق والإيمان. ولها دور كبير وبارز في إنشاء مركز تحفيظ القرآن المشهور في المدينة.
قدر الله و وفقي إلى العمل كمتطوعة في ظل مركزها، كنت متشوقة لأبعد الحدود أن أرى الأوضاع كيف تسري هنالك و رأيت بأم عيني أسباب النجاح.
كانت أيام جميلة حين قضيتها مع صحبة جميلة ولهدف كان نصب أعيننا، كانت هي التجربة الأولى في طرق باب الدعوة، وهي التي علمتني الكثير..
كانت مشرفتي كثيرًا ما تحدثنا عن المديرة، عن أسلوبها في العمل، جديتها و صرامتها للحصول على الجودة المطلوبة، عن خير تدريب دربت به موظفات المركز جميعا.
كنت معجبة بما حولي من أركان في المركز، كل ركن يحكي حكاية كفاح والتفاني وكان الإخلاص شعارا يحتل محلا كبيرًا في العمل…
التقينا بالمديرة -رحمها الله- في آخر أيام العمل.. حيث كنا نستعد للحفل الختامي.
جمعتنا جميعا حولها.. و أخذت تحدثنا بأسلوبها الراقي والذي تنجذب له الأسماع وتذوب القلوب معه محبة.
كانت تشكرنا من أعماقها و تدعوا لنا، و تحفزنا على أن نواصل هذا المسير و قالت كلمات ترن في أذني عن الإخلاص و البذل و السعي لرضا الرب..
ودعتنا إلى حياة أخرى.. حياة نعيشها لله وابتغاء رضوانه.
ــ
قطع حبل ذكرياتي صوتت أبي وهو يقول: سبحان الله !
فرفعت نظري إليه فأردف أبي:
أقيم اليوم الضحى درس علم حضره جميع أئمة المساجد في الإمارة .. قدم حشد كبير ملأ أكبر مسجد ..
وبعد أن انتهاء الدرس صلوا عليها جميعهم.. وصلوا عليها بعد الظهر مجددا الناس عامة ومن من صلى عليها الحكام وأبناؤهم.
كنت أراقب عيني أبي ..و أهتف في القلبي من الأعماق يا الله ! ارزقنا..
كيف للمرء أن يحيا ليصنع الكثير كما صنعوا كيف لنا عن نكون عظماء في الدنيا و الآخرة..
هتف الفؤاد..و غبت في ذكرياتي مجددا.. في عالم ترن فيه كلماتها في أذني
رباه .. ارحمها و أسكنها الفردوس من جنانك و اجعلنا كمثلها لا ترتخي عزائنا بأي بأس..
إنها بشرى :
تحدث أختها فتقول: نظرت إليها بعد تغسيلها كان الوجه مبتسما يبدو عليه الانشراح..
في آخر أيامها كانت سعيدة جدًا ..توفيت وهي صائمة بعد سويعات من السحور…
وكما وصلني أيضا:
تقول أحدى الأخوات وهي لا تعرف المتوفاة : حلمت حلما غريبا ..فلما طلبت التفسير قيل لي تتوفى امرأة صالحة فيصلى عليها قوم ثم يصلي عليها آخرون.