يلج العم لتوه إلى المنزل فيستقبله ابن أخيه بشوق عميق، العم يتيه فخرا بهذا الحب الذي لا يدري من أين هبط، فما يمكث إلا وينقلب وجهه لمّا يبدأ الطفل الحديث: “عمي عمي قل لي نكتة!”، هنا يدرك العم أنه مقتحم دوامة تدعى (التوهق)، فيجري عمليات التنقيب وربما التصنيع محاولا الخروج بنكتة نظيفة، لا يكون تعليق ابن أخيه عليها: “قديييمة” فيكون في ذلك العم المتخلف، أو “بايخة” فلا يشعر العم بنفسه وهو يرفع نعاله، أو أن لا يفهمها الطفل وتعال وأعيدها مليون مرة..
في وسط الدار على مائدة الحديث يجتمع الأفراد، ويصرخ فيهم أحدهم: “سمعتوا آخر نكتة؟”، يسكت المجلس، يصغي الجميع بترقب، شوق، حماس، هيا أحكي ما لديك، ومن ثم تتعالى الضحكات ونادرا في مثل هذه المواقف أن تكون ردت الفعل سلبية، كيف وقد صرخ الأخ بكل ثقة (فهو قد هالحركة وقدود) وحتى لو كان أحد الحاضرين لم يفهم النكتة أو استقدمها فإنه حتما سيضحك مع الضاحكين..
يرن هاتف نوكيا بنغمته المألوفة، رسالة نصية وصلت إلى أحدهم فيقهقه، تأكله من حوله العيون، فضول مشتعل، ولسان الحال قائلا: (بتقول اللي ضحكك ولا كيف؟) فيقرأها عليهم كضريبة ليسقي تلك المسامع المتعطشة ليسمع صدى ضحكاتهم أو تعليقاتهم الساخرة.
يجلس على كرسيه في الزاوية ممسكا صحيفة اليوم يقرأ فيها ذات الخبر الذي وصله على جواله سالفا “اشترك معنا تصلك آخر النكت، حصرية وغير مسبوقة” ولا يتعجب من تبنى هذا الإعلان من قبل إحدى شركات الاتصال، ولا يتعجب أيضا من رقم المشتركين الذي بالمئات أو ربما الآلاف، لأنه يدرك بطبيعة الحال أن من الناس من يشتري ضحكاته بماله، وربما هو أحدهم!
عاد الفتى لتوه من الدكان ممسكا مجلة ماجد، وتترجاه أخته أن يمنحها فرصة لقرائتها، يتخطى كل الصفحات وصولا إلى صفحة الأصدقاء الظرفاء وعلى أنه متأكد ومتيقن كل اليقين من سماجة تلك النكت وتكررها حتى أنه حفظها عن ظهر قلب إلا أنه لم يتوقف عن قراءتها كاملة أملا بالوقوع على شيء جديد..وما أن انتهى ناولها أخته التي فتحت على الحكايا المصورة لعلها تجد الكوميديا في طياتها..
وفي مكتبة البيت مكثت مجموعة من أعداد مجلة مساء -ومن يعرف مجلة الأسرة يعرفها- تلك المجلة التي توجد فيها البسمات النقية، والضحكات القوية من المواقف الواقية حتى أن دموع العين -لا أقول تكاد- بل تنزل بسببها، ولا عجب على الإطلاق أن لا يصرح أصحاب هذه المواقف من أسمائهم إلا أولى الحروف، ولا يذكرون من عناوينهم إلا اسم المنطقة التي يغلب أن يكون من أرجاء اليمن فإن لم يفعوا ذلك ربما انتهى مستقبلهم ..
وأسفل الرف مجموعة كتب، قد حملت أسماء تدعوك للابتسام، ابتسم، اضحك مع البنات، مع الأولاد، مع الأطفال، وجملة من الكتب الساخرة
وعلى التلفاز برنامج الفتاوى، يتصل أحدهم: ألو يا شيخ النكت حرام ولا حلال؟
وتلك كانت صور اقتبستها من الماضي الذي ربما البعض منا ما زال يعيشه، ولكني بصدق أقول:
هو ما زلنا نستخدم مصطلح “نكتة” ؟
وهل ما زلنا متلهفين لمساعها كما الأول، كأننا إن وقعنا على إحداها تناقلناها بحماس كمن وقع على كنز..؟
وهل نحن الآن حريصين على المصادر التي تجمع هذه النكت؟
كلا لم نصبح أكثر كآبة، ولكن حياتنا كلها دون أن نشعر صارت “نكتة”
فأنت لا تكاد تقضي ساعة إلا وقد وصلتك آخر نكتة على جوالك من إحدى وسيلتي التواصل، البلاك بيري، أو الواتس أب..
ثم إياك وإياك أن تنقلها إلى رفيقك، تحت مسمى “آخر نكتة” لأنه بطبيعة الحال سيقول لك وصلتني قبلك، أو عندي ما هو الأجدد..
وخاصة لو كان هذا الرفيق من أهل البلاك بيري وأنت الأخ الواتس آبي الفقير المسكين المتخلف ..
ثم إنك تعلم أن خلال الدقيقة القادمة ستنتج نكتة جديدة من مصنع لا تدري أين محله، وستصلك في وقت مبكر جدا متوافقة مع أحد الأحداث الجديدة، كفصل دراسي جديد مع توديع الإجازة، أو حول دبي وإنجازها .. أو في جلد مجتمعك أو انتقاد ظاهرة منه..
ثم إنك ستنتقل إلى تويتر، فتفتح على إحدى الوسوم، وترى فيها مزيج من القصص الواقعية والتناقضات العجيبة، ولربما الخرافات الكبيرة، و”الناس المدرعمة” والأفكار التي لا تدري كيف تخطر على ذهن أحدهم فتضحك من هول الصدمة ..
هذا وأقول، أيام شحذ النكت ولت، وزمن مصطلح آخر نكته أدبر ..
ودامت على شفاهكم البسمة =)