في ختام تدوينتي السابقة ” ادرس بجهد ولخص بذكاء..” ختمت بوصية لها قصة وخلفها تجربة طويلة أحكيها هنا..

وختاما، أوصي بوصية عزيزي الطالب..
هذه أسباب تبذلها ولكن ليكن نصب عينيك أنك مهما بذلت من أسباب لن تنتفع ما لم يأذن الله بانتفاعك منها ويفتح لك، فسأل المولى دائما من فضله ولا تعجز..

أنا من ذلك الجيل الذي شهد بداية اهتمام الناس بتنمية الذات، وثورة التغيير، وتكثيف التوعية في الإيجابية والتطوير وظهور مصطلح البرمجة العصبية. وبدأت شغفي بالقراءة في هذا المجال وأجمع كل ما يتعلق به من كتب لا ألتفت إلى غيرها، كأن الكتب لم تكتب خارج هذا المجال إلا أن تكون متون لعلوم شرعية أو قصص وروايات.

وكنت أتعطش للدورات التدريبية لا سيما “متعة العقل” التي كانت تقام في دبي، وكنت أرى أن خالي محظوظ جدا أنه ملتحق بها (أتوقع أن عمله من أرسله) وكم كنت أطلب منه أن يأخذني معه لكنه كان يصرفني عن ذلك ويبين أني لست بحاجة إليها، وأنها ولا تناسب سني. وكم كنت أشعر بسبب هروبه بإحباط، وتبقى أمنيتي معلقة انتظر تحقيقها سنة وراء سنة.

لم أكن أدرك إلا في الفترة الأخيرة، أني لم أكن بحاجة إليها فعلا؛ لأنني كنت أتلقاها من أمي كل حين والتي بدورها تعلمتها من الإذاعة وبعض برامج التلفزيون، فكما قلت كنا نعيش ثورة التغيير والتوعية. فكانت أمي دوما كلما رأتني أتخبط في يأسي وإخفاقي تردد علي الكلام الذي حفظته عن ظهر قلب، عليك أن تؤمني بذاتك وقدراتك، وتكوني واثقة.. كانت تصب في أذني هذا الكلام وهي لا تدري إنني أحفظه عن ظهر قلب، وأرى نفسي محل تعليم الناس فيه،لا تلقيه..لكني في الحقيقة لم أكن أدري كيف أحققه!

فبعض المشاكل العقبات التي كان حلها أصعب من أن يكون برمجة عصبية، كنت أشعر أن هنالك أشياء تفوق حجم طاقتي. ثم كيف أؤمن بقدرات إن لم أكن أمتلكها أصلا؟ من أكون أنا حتى أثق بنفسي؟ وأنا لم اكتشف نفسي بعد في ذلك السن ولم أعرفها، فعلى ماذا أستند؟ وأنا لا أريد أن أكون نسخة من المكتبرات في مجتمعي.

أشارت أمي إلي بأصابع اتهام بعد أن لم تجدي نصائحها معي قائلة: “أنتِ إنسانة ضعيفة الإيمان” وأحيانا كانت تقول “أنت لا تتوكلين على الله” كنت أتمنى أن تقول كل شيء إلا هذا.. فأنا يا أمي أصلي الحمدلله، أنا أصوم .. أنا يا أمي..أنا

نعم، في الحقيقة لا أتوكل على الله حق توكله..وأنا أعاني في ذاتي من كِبَر..ومؤلم هو الوقوع على الجرح.

قضيت فترة المراهقة بين كتب التطوير تلك، كانت جميعها تلتفت إلى الذات، قوة الذات، الثقة بالذات، تقدير الذات…وكان هذا شغل عقلي وجل اهتمامي، لم ينبهني كاتب على أن الله هو الذي له القدرة الكاملة وهو الذي يمدنا بالقوة ويفتح علينا.. وأن هذا لا يتحقق إلا بالرجوع إليه، بالخضوع والذل بين يديه، بالإنابة والخشوع والدعاء واليقين وحسن الظن به والتوكل عليه صدق التوكل باعتماد القلب وبذل الأسباب..(1)

لم أعي هذا حتى صرت أحضر دروس في العلم الشرعي تقدمها أستاذة سلفية وسمعتها تقول “النفس ليست محل ثقة” وقفة! ماذا تقول؟ هي بالتأكيد لا تعني المفاهيم التي أعرفها (هذا كلام مخالف لما في الكتب التي تربيت عليها!) ثم مباشرة وكأنها عرفت ما يجول في ذهني تطرقت بالتنبيه من مصطلح خطأ استخدامه “الثقة بالنفس” فالنفس ليست محل ثقة بتاتا.  (إقرأ  وقفة مع “الثقة بالنفس” د.فوز كردي)

حار فكري فلم استطع التميز، هل كنت طول هذه السنين أفهم ما في الكتب خطأ؟ أو أن الكتب كانت تبالغ؟ لم أعرف الإجابة. وأعجب من نفسي لما قلبتها على أستاذتي وأساتذتها (السلفيون) فاتهمتهم بنفسي بقليل من التشدد والانغلاق فأكيد هم لا يقرؤون خارج مجالهم ولا يتفقهون في الحياة. (هذه حجة الجهال تجاه من هم على منهج السلف نستغفر الله مما كنا عليه).

لكن أستاذتي لم تترك في صدري شيئًا عليها، فعلمت مع الوقت أن لها اطلاعا كبيرا يفوق اطلاعي، وهي لها دراسات وبحوث نفسية وتربوية وكانت تستشهد لنا من كلام علماء النفس والتربية ما فيه فائدة ونفع ولو كانوا غير مسلمين، وأيضا ذكرت لنا حضورها لدورات تقام للأزواج من باب تقيمها لها خلسة، وحذرتنا من أن نحضر للجهلة الذين لا يبنون أحكامهم إلا على الرأي، ليس لهم من العلم الشرعي شيء، لاسيما الذين ينقلون علوم الغرب كما هي من غير تمحيص، وتأخذهم الأهواء، ويشحنون بتلك الآراء العقول وكم تسببوا بهدم بيوت وتفكك أسر.

وسمعتها تشرح لنا معنى “لا حول ولا قوة إلا بالله” وذاب قلبي في هذا الشرح
ثم تأملت الأدعية النبوية: ” اللهم إني أستخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب” رواه البخاري
“اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ، و أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا” صححه الألباني

وكانت تقرب لنا المعاني بوضوح أكثر بكثير من تلك الكتب، وبينت لنا ضرورة أن ينزل المرء نفسه في منزلته التي أكرمه الله بها وأن يظهر نعمة الله عليه، مثل أن يقبل العالم أن يوصف عالمًا أو شيخًا.

وصرت أقلب بين كفي الكتب التي فيها أعمال القلوب وإعمار النفوس من كتب قديمة وحديثة ككتب ابن القيم، وكتب الشيخ محمد حسين يعقوب، وأقف عند جمل عديدة أقول في نفسي: “سبق هؤلاء علماء النفس بكثير! وجاؤوا بالمعلومة على الوجه الصحيح“. ووجدت في كتاب واحد من كتبهم ثقلا في المحتوى يغني عن كل تلك الكتب التي في مكتبتي تزدحم.

واستعدت شريطًا من الماضي لما حضرت مع صديقة دورة في الاستعداد لرمضان وذكر لنا الشيخ حديث “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة كبر” (رواه الترمذي) وضرب بذلك أمثالا..

انهارت صديقتي بعد سماعه، كانت خائفة، بدا لها أن ما كانت تمتدح بذاتها من ثقة حقيقته كبر، وكنت بجهلي أحاول أن أوصل إليها أنها تبالغ -أزين لها بجهل- وأقرأ عليها ما لدي من تعريفات لثقة النفس في الكتب وأحاول تفسيرها لها وتحليل ما بين النصوص فلا أجد لسؤالها جوابا بل أزيدها تخبصا..

وجدت حياة قلبي في العلم الشرعي، ومعنى العزيمة والتوكل.. وتعرفت إلى الله جل جلاله بأسمائه الحسنى فدرست اسم الله الفتاح، وأبحرت في اسمه الوكيل.. وآمنت باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل أعطى، وعرفت معاني اسميه الرب، واللطيف، وكيف أنه يدبر شؤوننا ويرزقنا..

وتأدبت في ألفاظي، فبعد أن كنت أقول (أنا استطيع، أنا أقدر، سأحصل، سأفوز) تطبيقا لما في كتب الذات، صرت أضيف إليها (بعون الله، بإذن الله، إن شاء الله، بحول الله وقدرته، مستعينة بالله)، وتعلمت ضرورة الدعاء، وأدب الدعاء، وأن أخضع بين يدي المولى أسأله توفيقه وفتحه فيما أن مقبلة عليه، وفي حياتي كلها.

وتعلمت أني أبذل الأسباب، وأن الأمر كله بيد الله، مهما بذلت، فإن شاء فتح علي أو حرمني، إن شاء قدم لي ورزقني وإن شاء أخر عني لحكمة يعلمها ولا أعلمها. وكم من أرزاق رزقني الله إياها بدون أن أسعى في تحصيلها بتعب، سخرها لي وهيأها، وكم من أماني سعيت وراها بجد، حرمت منها لحكمة.

وبالعلم الشرعي قوت شخصيتي، وعرفت معنى الثبات، وقوة الحجة، والخطأ أين يكون ولماذا هو خطأ..وعرفت حجم فداحة أن نؤمن بمبدأ ثم نبحث في الشرع عما يوافقه مأولين النصوص على ما يوافق الهوى! تبًا من جهل كنا عليه، تبًا لأفكار تعطل العقل وتحجب النور.

فكم عشنا سنوات نؤمن بالطاقة! بل ونستدل عليها أنها إعجاز ونسْجُد ونحن نستشعر تفريغ الطاقة السلبية وأنها تنجذب إلى الكعبة! وكثيرا ما كان يشغل تفكيري وأنا بطبيعتي أحب الفيزياء، سؤال كيف تمتص الأرض الطاقة وأنا أصلي في الطابق العلوي؟ كيف المسار وهل تتأثر بالعوازل؟!! لم أكن وقتها قد درست الفيزياء حتى أتسائل أيضا كيف تصل إلى الكعبة وفي الأرض تضاريس ومقاومة كبيرة؟

وماذا عن قانون الجذب! هراء الجذب، تضييع الأوقات بالأماني والحصيلة لا شيء!
وكنت أظن أني أبالغ في موقفي تجاه كتب الذات والدورات حتى تأكد لي هذه السنة وأنا في عقر داري وخلال وقت فراغي، وصلتني رسالة إعلان من ابنة عمي عن دورات باسم متعة العقل (اون لاين) ولا أدري هل هي مرتبطة بتلك التي كنت اطمح إليها قبل عشر سنوات أو مجرد تشابه أسماء، لكن هذا الاسم يحمل ذكرى بها سرحت، ورغم أني لم أشعر بحماس كبير تجاهها لأني شعرت أني وصلت إلى اكتفاء وغلب على ظني أن ما سأسمعه تكرار، قررت أن أدخل ولا اتسرع في الحكم، وشجعت نفسي فلربما استفدت شيئًا جديدًا اكتسب منه خبرة وأطور فيه من ذاتي، فلعلهم مثلا يتحدثون في القيادة أو الإدارة أو مهارات التفكير أو الابتكار! وفي ذات الوقت أحقق حلم الطفولة.

كانت ثلاثة محاضرات دخلت في منتصف المحاضرة الثانية، صدمت! حاولت أن أستمر في الاستماع حتى لا أكون قد تعجلت في الحكم، لا فائدة، كدت أجن من الكلام الفارغ التي يُملأ به الوقت ويعطى أكثر من حجمه! وتسمى دورة في متعة العقل! بل هي استهزاء بالعقل. بديهيات الحياة، يلقيها المقدم على أنها قوانين ويكررها ليحفظوها ويتابع من سها! لم أتحمل الهراء الذي يصب في الأذن وتعجبت من المشاركين المطبلين الذين يملأون وقتهم بكلام فارغ وثم يخرجون بفائدة يمكن أن تختصر بتغريدة يكتبها شخص من العاوم. أغلقت النافذة وكتبت لابنة عمي التي كانت حاضرة عجبي فقالت: “ويحك هذا الهراء ليس أسوء من سابقه، فالدورة الأولى كان موضوعها العلاج بأسماء الله الحسنى، والمغالطات فيها كبيرة” !!!!

ومن أعجب ما أسمع، يشيب شعر رأسي منه لما أقول لخريجي برامج الإذاعة، ويحك هذا الدواء ليس هو علاج مرضك، فيقول يكفي أنني أعتقد به علاجا..

وأختم بهذا الموقف الذي مررت فيه:

أقدمت يوما على اختبار مصيري، وكنت متيقنة أن مستواي لا يكفي لاجتيازه خاصة وأني رسبت في كل الاختبارات التجريبية قبله. دعوت الله باسمه الأعظم وتوكلت عليه.

عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ” ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) . رواه أبو داود وصححه الألباني

عن بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْب أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ” ، فَقَالَ : ( لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ) .رواه الترمذي

خرجت من الاختبار أفكر في ما بعد الرسوب وكيف علي أن أتصرف؟

فلما ظهرت نتائج الاختبار، وأنا أفتحها مرتعدة من الخوف كانت النتيجة كما هطل يصب على رأسي من السعادة، لما رأيت أني لم آت بعلامة النجاح فحسب بل تجاوزتها .. كيف؟ ماذا؟ لا أدري .. كل الذي أدري أن الأمر كان أكبر من مجرد قدراتي .. فوالله لو أني وكلت إلى نفسي وخدعتها بقوانين الجذب وكلمات الثقة بالنفس ما نجحت قيد أنملة.

أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلت في هذا المقال على وجه التحديد للآباء والمعلمين المربين، لا تكونوا خديعة التزييف، اغرسوا في قلوب أبناءكم المعاني الإيمانية الرفيعة. في كل مرة تحاولون فيها رفع معنوياتهم ذكروهم باستشعار ربوبية الله ولطفه ومعيته، حذروهم من أن يكلوا إلى أنفسهم ويعتقدون بإمكانياتهم وقدراتهم وينسون الاستعانة بالله.


(1) مؤخرا استمعت إلى سلسلة “الشخصية القوية” لياسر الحزيمي ولم يغفل عن هذه النقطة. إذا أردتم لكم أو لأبنائكم دروسا في بناء الذات نافعة وقيمة أنصحكم بها: https://www.youtube.com/watch?v=kgzzAM0ueUE&feature=youtu.be