قلت:
في الجنة سأسأله عن تتمة الحكاية، عن كل المشاعر التي خطفه الموت قبل أن يدونها.

ثم قلت: هل تراني سأطلب في الجنة حديثًا من الحزن؟ أم أن الحكاية حينها ستكون على سبيل التسلية ونضحك على تلك المواجع!

لقد أبدله الله خيرا لابد، فقد ذاق من الابتلاء ما قد ذاق. وهذا دأبُنا أن نحسن الظن.

تساءلت في نفسي لما لم يُتَداول اسمه بيننا كثيرًا -نحن الجيل الجديد- وقد كان ذا همة وسلك طريقًا يجعله في الصدارة؟
لم أكن بكامل الاستيعاب لما قرأت “يرحمه الله” على غلاف الكتاب، أنها تعني وفاته في ريعان الشباب!

كم تطرق للأموات من مرة؟ وعلى أن ذكر البعض منهم ما كان مستدعي ولا يزيد الحكاية حبكة..
هل يا ترى كان يشعر؟ يذكر نفسه؟ يذكرنا بالأجل الآتي لا محاله؟

ما سبب إلغائه فكرة أن يدون حياته في ثلاث روايات منفصلة واقتصاره على رواية واحدة مع قفزات كبيرة بين المراحل والأزمنة؟ ليرويها بعد أن بدأها بتسلسل، بمجرد الأحداث التي تخطر على ذاكرته أو التي استدعت الحاجة إليها، وكأنه يسابق الزمن، يحاول أن يغطي من كل مرحلة أهم أحداثها التي حصلت.

أليس في هذا درس يعلمنا إياه بعد أن ترك النهاية مفتوحة، أن الحياة قد تكون أقصر من زمن تدوينها؟
وأن أعمارنا قد لا تبلغ زمن حددناه لعمل أجلناه.. !

فلنغتم قبل أن نفارق..

تعرفنا على شخصيته، وهو لم يكن شخصًا مثاليا ولم يكن يحاول الظهور بذلك
لكنه كان يظهر محاولته في المحافظة على طهارة قلبه وإخلاصه فيما هو مقدم عليه وعلو همته.

لكم تساءلت في بداية الحكاية عن جديته فيما يحكي؟!، لقد غامر مغامرة أيما مغامرة، بل جازف مجازفة أيما مجازفة بل تصرفَ بطيش ولم أوافقه أبدًا فيما فعل ولا فيما برر..

تسلسلت الأحداث الأولى ببعض الملل، لأننا نقرأ الكتاب وننتظر الوجبة الدسمة منه التي لأجلها نقرأ له.. وهي أن يشرع بالحكي لنا عن حياة شخص آخر!..
كنا نقتل الملل بترقب نقطة الالتقاء بينهما..
وحينما حانت اللحظة، اشتد التشويق ودخل الصراع في الموضوع صرنا نندمج مع شخصيته هو أكثر ويهمنا أمره..

ثم خضع لرغبتنا بأن يسلط الضوء على ذلك الشخص أكثر فأكثر والذي عرفناه وأحببناه لكننا لم نعرف تفاصيل حياته، ولا كيفية معاشه..فصار يحكي لنا من القصص والمواقف التي معها تلألأت عيوننا إعجابًا وغبطة ..وازداد حبنا له وكَبُر..

ولما فرغ من ذلك وعاد يروي عن حياته الشخصية التي ليس لها صلة بمطلبنا أتمننا القراءة تعطفا وتكرمًا فقد صار صاحبنا الذي بيننا وبينه فضل، ولقد أبكانا أيما بكاء..

اسمى حكايته
“رحلتي إلى النور”
فيا رب بلغه نوره، واجعل له في قبره نورا..

صاحبنا اطلق على نفسه مالك الرحبي كاسم مستعار في المنتديات آن ذاك.
واسمه الحقيقي مازن الغامدي
سطر بحروفه سيرته في طلب العلم متتلمذا لدى شيخنا العلامة ابن عثيمين -رحمهما الله جميعا ووالديهما-. ولا أرى تتلمذه عند الشيخ إلا فضل من الرحمن وتيسيرًا..فقد كان ابن عثيمين له بمثابة الوالد وأكثر، ولنعم الولد الذي يتربى في كنف هذا الوالد.

تعلمنا من شيخنا ..وأنا أقول تعلمنا كمن عاش وسمع ورأى وياليت كان لي هذا..

تعلمنا معنى أن ينتفع العالِم من علمه، فلم أكن أتوقع أن يعيش إنسان زاهدًا في عصرنا، وعلى رغم مقربته من الأمراء والملوك.

تعلمنا من شيخنا التواضع، وما أجمله من خلق حسن. وهو صاحب نكته، وجده جد.

شيخنا معلم فذ، يجيد تكريم المجتهد وتشجيعه، ويقرب ذا الهمة ومن طرق باب الهمة جادًا يصل بإذن الله للقمة.

استقينا من شيخنا أنه لا ينبغي أن تكون بين المسلمين فجوة (هذا متدين وهذا عاصٍ).. وأن ديننا دين أخُوة ورحمة، عمل بمعروف ونهي عن منكر لا نعين الشياطين على إخواننا.

تعلمنا أن لا نخاف في الله لومة لائم وأن من أساليب الدعوة التدرج والبدء بإصلاح القلوب فإذا كانت جد غافلة ونكسب ودها حتى تتقبل.

شيخنا مثال جميل على من يحرص على الاقتفاء بالسنة والاتباع شبرا بشبر. غير واضعٍ للحدود والقيود كما نفعل -نسأل المولى العافية-.

العلم أمانة في نظر شيخنا، لا يستنكف عن إفتاء الناس ويبذل في ذلك جهده ويرى أن حقهم عليه أهم من حق بدنه عليه.

رغم انشغاله وازدحام مواعيد أعماله لا يترك ورده من القرآن..لا يترك ورده..

يهتم بمواعيده، ويضيق صدره إن اعترض عارض يمنعه من الوصول، ويحترم وقت الدرس وتواجد طلبة العلم فلا يقطعه أو يأجله بسهولة.

شيخنا كان مهتما بالتقنيات الحديثة ولا يتردد في اقتناء ما ينفع العلم منها، وكان حريصا على تسجيل دروسه لتصل وتبلغ من لم يتمكن من حضور مجلسه..وقد آتى ذلك ثمرته..
قلت لصحبي ونحن بين أيدينا القصة نقرأ فيها: إن فرصة التتلمذ على يد ابن عثيمين ما زالت متاحة حتى بعد وفاته!
فهذا موقعه يزخر بالعلم لمن أراد..
قالوا: ليس كمن رافقه ولازمه.

قلت: إذا فات البعض ما فات الكل.

قلت هذا الكلام فلما تابعت القراءة إذا بصاحبنا يحكي عن حجاج من الأمريكان السود أتوا يسلمون على الشيخ في الحج ويقولون نحن تلامذتك وهو يقول: لا أذكر أنكم درستم عندي!
قالوا يا شيخ لقد سمعنا شروحك من الأشرطة في الواسطية وكتاب التوحيد وغيرها فنحن نعتبر أنفسنا تتلمذنا عليك.

رحم الله شيخنا وتلميذه مازن وأسكنهما الجنة..اللهم اجعلهما ممن يرزقون نعمة النظر إلى وجهك الكريم وبلغهما صحبة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

لتحميل الكتاب