بلد متعدد الثقافات والأديان ترى الصليب ثم صنم البوذا وأصنام التاميل (الهندوس) وثم الحمدلله المساجد. الأديان عندهم تتضاد أشد ما يكون ورغم هذا متعايشون!
التعايش ليس بالضرورة أن يكون كليا إيجابيا، فأحيانا من باب التعايش يتنازل المرء عن جزء من هويته ويتخلى عن مبادئه واقتفاء شريعته.
ذكرنا إعجابنا بتعايشهم للمرشد السياحي وهو بوذي فإذا به يبدي نبرة من السخط قائلا: “بكل تأكيد فنحن لسنا كالسعودية التي لا تقبل إلا مسلما!، وعلى ماذا هذا التعصب والعنصرية، فكلنا بشر في النهاية مصيرنا واحد (الموت). هنا في سيلانكا نعمل مع بعض، نتزوج من بعض…”
لم ندعه يكمل الحديث لينطلق في تفاصيل يصعب على عقله فهمها وحاولنا تهدئه لتحسين الصورة حتى يتقبلنا بشكل أكبر، بينا له أن السعودية لا تقبل غير المسلمين في مكة والمدينة فقط، وأن الإسلام أباح الزواج من أهل الكتاب.
لما أخبرنا عن زواج المسلمين بالبوذيات وربما العكس كدت أن أضع يدي على رأسي من فرط المصيبة التي يصنعونها بأنفسهم، سحقا للجهل.
الكثيرون يتغنون بحب الأرض والولاء للأرض والفداء للأرض وأن الوحدة هي وحدة الأرض.
في نظري أن المرتبة الأولى من الوحدة والولاء هي الولاء لله متمثلة في دينه الإسلام ثم الأرض..
إن الانتساب إلى دولة غير مسلمة تعترف بالدين الإسلامي كأحد الأديان الأساسية فيها وتعطي للمسلم حرية العبادة كما سواه، بلد تستحق من مواطنها أن يحمي عنها ويحرص على أمنها، ولكن لا يمنعه هذا عن التبليغ أو يمنحه هذا الحق بأن يخلط دينه بآخر!
كان يذكر لنا المرشد عن فئة من المسلمين -على حد زعمه- تسكن منطقة في الهند، يؤمنون بالله -سبحانه- وببوذا كأخ له -حاشا لله، تبارك ربنا وجل وعز-.
من هذا الحديث تشكلت لدينا صورة أن المسلمين في سيلانكا مسلمون بالاسم فقط! وأننا قد لا نعرف المسلم من غيره للأسف، ولكن هذه الصورة سرعان ما تبددت من أذهاننا لحظة وصولنا إلى مدينة لم نر فيها أصناما، وكان ثمة انجذاب في القلب نحوها.
رأيت المساجد لأول مرة هناك، يا الله!  منظر يسعد القلب ويقذف فيه مشاعر انتماء.
نساء محجبات في الشوارع، بحجاب سابغ جدا، وبعضهن منقبات.. كان ذلك وقت صلاة الجمعة والمساجد تكاد تمتلئ..
المحلات معظمها مغلقة، سألنا المرشد عن السبب فقال أغلب سكان المنطقة مسلمون يستعدون للجمعة.
المسلمون في سيرلانكا تعرفهم بسيماهم، فما عداهم من الوجوه حالك منفر شاد الأعصاب ولا تظن فيه خيرا، لكن المسلمين وجوههم وضاءة، متزينة باللحى التي تضفي وقارا بالنسبة للرجال، والحجاب الذي منه يشع الوجه ضياء بالنسبة للنساء، وفيهم سماحة، وصدورهم رحبة.
إذا ارتحت لسيرلانكي فقط أسأله ما دينك سيقول: “مسلم”
المسلمون هنالك يخضعون لأشد أنواع الغربة، فكيف لا وهم أقلية محاطة بجو من الشرك وما من فتنة أعظم. فهل يتخيل واحد منا نشأ في بلد التوحيد، أن يكون في بلده أديان شركية تفوق الإسلام انتشارا؟!
وأن أحكام البلد وقوانينها لن تستمد من الإسلام؟ بل أن الحاكم نفسه ليس مسلما! تأملا جيدا واحمد ربك كثيرا.
أكثر ما انشرح له صدري واطمئن به قلبي، أن المسلمون هم قادة الاقتصاد في البلد، وهم أفضل معيشة من غيرهم، جاء هذا كبلسم على قلبي بعد أن رأيت خان متهالكا للمسلمين تلاصقه كنسية حديثة ضخمة.
هكذا هم غرباء في بلدهم، ولكن من جهتنا نحن في بلادهم، كنا نلاقي نوعي غربة: غربة الدين، وغربة الوطن.. عندما رأيناهم، زادت همتنا في التمسك بالاغتراب الأول، وخفت وطأت الغربة الأخرى فكأننا بين أهلينا.
كنا نسير في إحدى الحدائق وأمامنا عائلة تقابلنا في المسير، الأم والبنات يرتدين حجابا سابغا ونقابا، كانوا يسيرون كما لو هالة من الطهر تحيط بهم، تجذب العيون فلا تكاد تتبع سواهم، ركضت طفلتهم لتسبقهم حتى وصلت إلينا والأب ينادي عليها “أميمة”.
من شدة إعجابنا باختيارهم للاسم أخذنا نهمس لبعض “اسمها أميمة، أميمة!” وكانوا يشعرون بعيوننا التي تبصرهم بنظرة الغريب المشتاق، الذي لعبت بمركبه أمواج الحنين فما هدأت إلا بهم، وسمعوا همساتنا باسم ابنتهم وهم يكادون يتجاوزوننا، فترددت أقدامهم وتباطئت منهم الخطى كأنهم أحسوا أن لدينا حاجة عندهم ينتظرونها منا، ونحن على خجل، فينا رغبة التعرف عليهم ولا ندري ماذا نقول، أشبعت فؤادي بنظرةٍ تجاههم توقفوا لأثرها فقلت: “السلام عليكم” ردوا السلام ثم مضى كلٌ منا في حاله وأنا يؤرقني ندم الخجل.
لا أحد سيصْدقك ويكرمك في سيلانكا كمسلم، الكل يحاول أن يجمع أكبر قدر من النقود من جيبك ولو بالنصب، لكن المسلمون يريدون أن يتاجروا معك برضا الله ثم رضاك..
تعرضنا لحادثة موجعة، في إحدى المرافق السياحية لأننا كنا لطفاء كرماء مع أصحابها، فبادلونا بالتبلي والاستهزاء، فخرجنا من المكان نستشيط غيضا وطلبنا من المرشد التوقف عند أقرب مسجد، مبينين له أن الهدي النبوي أمرنا عند الغضب أن نتوضأ..
صلينا هنالك، فلما انتهينا جاء أحد الطيبين يقول لأبي: إن لدينا مطعما للمسلمين هنا تابعٌ للمسجد إذا أحببت أن تشرفنا.
أدخلونا المطعم وهم يضعوننا فوق رؤوسهم يبدون احتراما كبيرا. اجلسونا في قسم العوائل وكان الحاجز نصفه زجاجي يكشف، فطلبوا من زبائهم المقابلين لنا التحرك من مكانهم! ثم منعوا أحدا من المرور.
 كان المطعم متواضع جدا وعلى الطاولة ماء منسكب، وعلبة صلصة مفتوحة، طلبنا منهم تنظيف الطاولة واستبدال العلبة بجديدة وتلقوا ذلك بصدر رحب.
أحضروا إلينا الملاعق في إناء من الماء الحار، حتى نطمئن لنظافتها، ثم أحضروا لنا الأطباق، كل طبق مغسول ومغلف بالنايلون، ثم أحضروا إلينا الوجبات وكنا قد طلبنا كبسة وعدس فقط، ولكن الطاولة أمتلأ بالمقبلات من عندهم.
كانت هذه هي المرة الأولى منذ وصولنا إلى سيلانكا التي نشعر فيها أننا نأكل حقا!، أكلهم شهي، كأنه أكل بيوتنا، طازج ونأكله ونحن مطمئنون بأنه حلال. ووقت الحساب قالوا: “لن نُدفعكم ثمن ما زاد من أكلكم!” وطبعا أبي رفض.
كنت أشعر أن الله سبحانه وتعالى أكرمنا بهذا المكان، ليكون بلسما لجرحنا وتطيبا لقلوبنا، ومنه تعلمنا دروسا بليغة.
ما أجمل أخوة الإسلام، ما أعظمها من مبدأ وما أروعها من مشاعر، تعرفت هنالك على فتاتين سيلانكيتين لطيفتين، بدأت الحديث بسؤال عن مكان تواجد الفيلة، ثم نظام التعليم لديهم وماذا تخططان للمستقبل، وانتهى بطلبنا أخذ صورة معهما. وضعت يدي على كتفيهما وقلت:”أنا سعيدة جدا بالتعرف عليكما لأنكما مسلمتان مثلي”.