ما زالت تدور في خلدي قضية تلك الفتاة المسيكينة التي شاركت في مباراة رياضية على مستوى مدارس المنطقة ثم تفاجأت بصورتها في الصحف بدون حجاب! الشيء الذي استصعب على الإدراك كيف للإعلام أن يصل إلى ساحة رياضية كان المفترض أن تراعي كامل الخصوصية التي تحتاجها المرأة، وكيف تم الأمر بمباركة مديرة المدرسة والمدربة، مع التخلي عن أهم القيم!

أتسأل في خضم هذه المشاهد، أين ذهبت كرامة المرأة؟ خصوصيتها المزعوم تبينها من قبل وزارة التربية والتعليم، هل وصلنا إلى تلك الدرجة من موت الضمير وتجمد الدم حتى يصبح الأمر اعتياديا جدا، ويفرض علينا كواقع؟

كثيرا ما أقف عند هذه المواقف وأتخيل الحال كيف سيكون في السعودية؟ ما كان ليحصل وإن حصل لقامت ضجة كبيرة تشهدها وسائل الإعلام الجديد والقديم، وربما تتبعها المُساءلات، وليست كما قضية صاحبتنا المسكينة التي لم يتعاطف معها إلا القليل، بل أن الأغلب ممن تصفح الصحيفة لم يلاحظوا أن ثمة خطأ!

السعودية وحدها البلد الذي يحترم المرأة وخصوصيتها ويعظم عليه أن تهان بهذه الطريقة، وأتذكر هنا تلك الضجة التي شهدناها في السعودية من بين مؤيد ومعارض لقرار رياضة البنات في المدارس، وعلى رغم أني من أشد المشجعات لها القرار لما يعود بالفائدة على الصحة والترفيه الحلال، لي مخاوف كبيرة أن يصل الحال في السعودية إلى الحال المأسوف عليها عندنا، فينتقل الحلال لدائرة الحرام.

أصبح حصول الفتاة على رخصة القيادة في الإمارات من متطلبات الحياة، وقد تقدمت إلى طلب رخصة تحت إصرار كل من والديَ، ولحظة الاختبار شيء فضيع جدا، كيف وقد ذكر أنه من اللازم جلوس الشرطي في المقعد المجاور لأجل أن يتفحص طريقة قيادتي أي حركاتي، بما فيها رجلي، وعيناي! ولأنه لم يتم تعيين شرطية تقوم بهذه المهمة ؟؟َ!!

عندما تخيلت الموقف اعترتني حالة اشمئزاز فضيعة، وأكننت في نفسي: “ايه ولو كنت في السعودية لوفروا الشرطية من تحت الأرض” (طبعا حال السماح بالقيادة) وأخذت أردد: “يا حظ السعودية، محفوظة الكرامة”.

وبعد حصول المرأة على رخصة قيادة، وحال تبلد بعض الرجال في أداء مهامهم، تصبح المرأة هي الكل في الكل من أجل إتمام مشاغل العائلة العالقة، فلا تتفاجئ إذا رأيت المرأة هي التي تتولى توفير الخبز وتوصيل الأبناء إلى المدارس، والذهاب بهم إلى السوق لشراء الحاجيات، وأخيرا جلب العمال إلى المنزل لإصلاح ماسورة مكسورة.

يبدأ الأمر عاديا في البداية، بل وتسعد فيه المرأة بإتمام الأعمال العالقة، ولكن شيء فشيء يكثر الضغط ويزداد تخلي الرجل عن مسؤولياته، فتشعر المرأة بفقدان أنوثتها وتمنيها المكوث في المنزل وتقول: “يا ليتني كنت سعودية” *(اقرأ مقال وحي الكلمات لـ غنيمة الفهد)

تجولت يوما في إحدى مراكز الرياض، فأبديت اندهاشا كبيرا عندما رأيت ذلك القسم الخاص بالنساء، قسم يراعي كامل الخصوصية ويحرسه شرطي، انتابتني مشاعر كبيرة جدا خفق لها القلب، إنها أول مرة أدخل فيها على مركز تجاري، وأرى فيه مكان يحتويني ويضمني بدفء وبعيدا عن أعين الناس! مكان مُطوع لتوفير راحتي، يقول لي أنتِ سيدة المكان، أنتِ الأولى هنا، هذا المكان مكيف لكِ، وليست أنتِ من عليك التكيف معه! فقد اعتدت رغما عني في جميع مراكز بلادي التجارية أن أتكيف مع الوضع الغربي المفروض، فلا أحد سيهتم لأمري ويراعي ما استحق من الخصوصية.

و على صعيد الجامعة، فعلى الرغم من أن جامعتي جامعة للبنات، إلا أنه يستحيل علي أن أجلس في مكان أضمن فيه عدم من مرور رجل! وهذا الرجل هو أستاذ جامعي، موظف، عامل أمن، عامل نظافة. يشاركونني الممرات والأردى أن يجلسوا بيننا في المطاعم! فلا تتعجب بتاتا من أن ترى طاولة يجلس عليها رجلان غربيان كانا أو عربيان يحتسيان كوبا قهوة وسط اكتظاظ المطعم بالطالبات. وحينما أدير الكرسي لأعطيهما ظهري فأتنفس قليلا يأتي عامل المطعم من أمامي ليضع الطبق.

وأتذكر حينها صديقاتي السعوديات وكيف يصفن أنهن يمشين في الجامعة بدون عباءة! وقد تم توفير طاقم أمن نسائي كامل، وحتى عندما تم افتتاح قطار في جامعة نورة، تم تعيين طاقم نسائي يقوده، مدرّب من قبل عناصر نسائية أيضا!

وأدركت لاحقا حجم الحرمان الذي سيعتريهن ما إذا تم تطبيق نظامنا العقيم على جامعاتهن والسماح للرجال بالولوج والخروج، وخصوصا بعد الضجة التي سمعنا فيها أثر السماح للرجال بتدريس الطالبات في جامعة نورة، وعلى أني شخصيا لا أرى أي مانع من أن يكون الذي يقدم إلي العلم رجل إذا تطلب الأمر، ولكني أشدد كثيرا على الحدود والضوابط، التي للأسف هي التي يُتساهل فيها جيلا فجيل.

أصبحت أرى في الجامعة الكثير من المناظر التي يضيق بها الصدر، وتتمنى أن لم ترها العين من تساهل في الأخذ والرد، والجرأة على المزاح والاستخفاف، وعدم ترك المسافات الكافية بين الطالبة والأستاذ، وإني لا أشير بأصابع الاتهام إلى الأساتذة وحدهم وإنما حتى الطالبات أنفسهن، هن من يتمادين بشناعة ويستعرضن ألوان وجوههن وعباءاتهن التي ليست بعباءات. فالحياء الذي نعهده من صفة فطرية في الفتاة لم يعد له وجود إلا ما نادر.

وأعود إلى صديقاتي السعوديات فحينما أتخيل جامعتي اليوم كجامعاتهن، وأشعر بتلك الحرية والاستقلالية وعدم الخوف من الوقوع في تجاوز، وحفظ كل من الحياء والتقدير والراحة والقيم التي توافق الفطرة، فكأنما هي مملكة نسائية خاصة، يعمل الجميع على حفظها وعدم التعدي على حدودها، أقول: “يا حظ بنات السعودية”.

وعلى نطاق العمل، أصبح يكاد يكون مستحيلا الحصول على عمل لا يكون فيه اختلاط! فحتى المؤسسات الإسلامية، أصبحت مكاتب النساء مفتوحة على الرجال، والمدارس بدأت تحذو حذو الجامعات. وأصبحت المساواة بين الرجال والنساء أمرا ظاهرا، وفتحت الوظائف للنساء بغض النظر هل تناسب صفات المرأة الجسدية والنفسية أو ظروفها؟ وعلى الرغم من أن الدولة تتبنى شعار “تمكين المرأة” لا “المساواة” وبين المفردتين فرق، إلا أن التمكين تحول تدريجيا إلى “مساواة” مع إحكام القفل على العقل.

وقد قابلت يوما كابتن طائرة، امرأة، تعد من الفئة المحدودة من النساء اللواتي كافحن من أجل وظيفتهن، كانت ترتدي بدلة الطيار، قميص وبنطال شبه واسع، ومع حجاب رأس محكم لا تظهر منه ولا شعره، كانت تجلس وتضحك مع زملائها وقد ذابت كل الفوارق لدرجة أني رأيتها تضع يدها على ظهر أحدهم بلا خجل! وأثناء دردشتنا معها قالت إحداهن لي أمامها مازحة: “ما رأيك أن تعملي مثلها؟” فقلت: “أنا؟ّ وكيف وبالنقاب؟!” خفضت الكابتن فجأة صوتها وأخذت تهمس: “لن يسمحوا لك” ثم أشارت إلى القطعة التي على رأسها وقالت: “كافحت من أجلها” !!

تقضي صاحبتنا الكابتن حياتها معلقة في السماء، ما تكاد تهبط إلا وتطير إلى بلد آخر، وتجلس في مقصورة ضيقة مع رجل غريب عليها، مات الحياء عندها، ولم يتبق مع حجابها إلا قطعة رأس سمحوا لها بها بشق الأنفس (لاحظ تعريض نفسها لهذا الموقف)، وما تزال فخورة بوظيفتها على لا شيء!

تغار نساء السعودية منا على لا شيء، وتضرب فينا الأمثلة ونحن نمضي إلى الهاوية، وأقول لهن أنتن الأصل، أنتن من علينا أن نحذو حذوهن، إنّا نراكن حفيدات الصحابيات، فلا تبحثن عن قدوات غيرهن.

“لمست في السعودية قيمة المرأة في حفاظها على قيمها الإسلامية، ولما عدت إلى أوروبا حيث أعيش منذ سنوات أدركت أن النساء بالغرب أبخس من أرخس بضاعة” -أنور مالك

ـــــ

في الزاوية:

سيقول قائل: “تقولين هذا لأنك لا تعرفين حجم الحقوق المهدورة” فأقول: قضيتي في هذا المقال مسألة الاختلاط، وقد تابعت قضايا المرأة السعودية الكثيرة، وجدت فعلا أن ثمة حقوق مهدورة، مثلما أن هنالك حقوق للرجل مهدورة. غير أن قضايا المرأة الحساسة يتم التلاعب فيها وتضخيمها من قبل العلمانيين بشكل مباشر أو غير مباشر، فيفتحون القضية بظاهر حسن ويخفون وراءها ما يكيدون، ويروج القضية أصحاب النوايا الحسنة، ولما يتحقق المراد ينفتح باب لم يكن بالحسبان.

ثم أن كثير من القضايا المطروحة على الساحة السعودية قضايا جنونية بحته ومناقشتها استفزازية، كقضية حضور المرأة الملاعب الرياضية، وهذرة البعض بأن هذا يعد من الحقوق، ويدخل في باب الحرية وحفظ الكرامة!! فهل في عدم حضور المرأة لملعب يلعب فيه الشبان نقص في طعام عيالها وكسائها؟

هنالك أولويات يجب مراعاتها، ونظم وقوانين وثقافات وحقوق هي فعلا حقوق يجب الإيفاء بها قبل أن تم التفكير مثلا في قضية  كقيادة المرأة للسيارة. وليس من الصواب على الإطلاق مقارنة المجتمع السعودي بالإماراتي فثمة فروق كبيرة في كل من تركيبة المجتمعين، وثقافتيهما، ولا ننسى أن للمجتمع السعودي حاقدين ينتظرون الفرصة لينشروا شباكهم.

12