المكان: قاعة الاختبار

الزمان: في زمن كان

السؤال:

“التطوع هو سمة من سمات المجتمع المتماسك ويلعب دورا في تحقيق المنفعة العامة, أكتب مقالا أو قصة في ذلك”

عصف ذهني سريع.. التطوع، أجل التطوع!، سمعت هذه الكلمة من قريب في أكثر من محفل.. نعم، قرأت عنها أنها كذلك..ليست لدي أي خبرة عنها إلا ما سمعت وقرأت، مصطلح جديد يتداول في الفترة الأخيرة لنشر ثقافة العمل بلا مقابل. سأكتب وفقاً لما سمعت وبناء على ما قرأت.

وبينما أنا أفكر في الموضوع، يسرح خيالي في نماذج وصورٍ مختلفة هي أيضا تطوع.

لحظة أيها الذهن، الموضوع ليس بهذه السطحية، إن ثمة صوراً عديدة من التطوع وقعت عليها..والموضوع أكبر بأكثر مما ظننت..!

هنالك نماذج متعددة منه، فأيها المطلوب؟ وأيها الأصح؟ وما هو الفهموم الصحيح؟

وأقطع حبل الأفكار والأسئلة وأعود لأكتب وفق ما هو محفوظ في الذاكرة تداركاً للدقائق المعدودة المتبقية. لأخرج من الاختبار وما يزال مفهوم التطوع في غبش، ولأضعه ضمن قائمة المفاهيم التي لم تتضح بعد على الرغم من كثرة تداولها..

،

في جلسة تأمل مع ذاتي، أعدت سؤال الاختبار على ذهني وبدأت أفكر من جديد، فوجدت أن صورا من الحياة يطلق عليها تطوع وهي ليست بذلك، وأن صوراً أخرى لا يطلق عليها تطوع، وهي لب التطوع. ووصلت لنتيجة أن التطوع هو مفهوم له ظاهر وباطن، ظاهرٌ متمثلٌ بالعمل، وباطنٌ هو النية خالصة لوجه الله تعالى..فإن اجتمعت النية والعمل صحت الصورة، وسمي العمل تطوعاً، وإن افتراقا فهذا في عداد المعاني الجميلة الملوثة التي لوثها أصحاب الرياء..

ورأيت أن أكثر من زعموا تبني المفهوم المشهور في المحافل -ولا أعمم-, اندفعوا بحماس رغبة في خوض تجارب جديدة متناسين أن عماد نجاح مثل هذه المشروعات أن تبنى على نيةٍ خالصةٍ لله، يتبعها عملٌ فيه اتباع، وأن هذا ميدان عظيم لرفع رصيد الحسنات..

التطوع الحقيقي وجدته في مجتمعي بين أهلي وناسي، وهو أنقى، أبسط، وأصعب من كل تلك المشاريع التي تنادي بها المحافل..

أنقى؛ لأنه نقي بنقاء النية التي لا يشوبها رياء، ولأنه نابع من قلب بشري رغبة، لا تقليداً ومجاملة..

أبسط؛ لأنه واقع بيننا وموجود ولا يحتاج إلى بحث ولا اختراع..

وأصعب؛ لأن على المرء أن يعمل بما وجبه عليه ضميره دون إصغاء لنقد بشر في مجتمع غارق بالسلبية..

..

التطوع هو أبي.. وزجاجة على الطريق نسي صاحبها أو تناسى أن محلها القمامة، التطوع أبي وهو يغير موقعها إماطة للأذى..

التطوع أبي.. أراه يغرس كلمات البهجة في قلب طفل.. فيتراقص الطفل فرحاً مستأنساً..

إنه أبي.. وهو يسعى خلسه على الأرامل واليتامى..

التطوع أبي، زائراً كبار السن من رحمه، حاملا هم راحتهم أكثر من أبنائهم، عاملا على حوائجهم ومصلحاً في منازلهم..

التطوع أبي، يتلقى طعنات البشر -بجهل خالص منهم- دون رد أو صد، يتلقاها جميعها بصبر وحلم، ليكون بذلك درعا لمن لا يتحملها من البشر..

..

التطوع أمي..

مع إشراقة كل صباح، توصي بالتفاؤل..

أمي.. في مدارس أخوتي تساهم وتشارك..

أمي، وكثرة الاقتراحات والشكاوى في طوارئ البلدية..

أمي، وهي تقود سيارتها حاملة جعاب الماء لتوزعها على عمال النظافة في الطريق..

أمي، وهي تجمع الجارات للتعارف..

أمي وهي ترى كبيرة في السن في العيادة فتعرض عليها إيصالها لمنزلها..

..

التطوع جدي..

وقد عين نفسه مسؤولا عن المسجد،

تراه يضيء الأنوار، يطفؤها..

ويثور سخطاً على الإمام إذا نسي التكييف مفتوحاً لساعات دون غرض..

ويسبقه في الإبلاغ عن الأعطال..

..

التطوع وصور أخرى كثيرة في مجتمعنا الصغير قد لا تحضرني, أراها تارة في جدتي

وهي تصر على وضع سقيا الماء أمام منزلها..

وتارة في فتاة تخرج طفلا عالقاً بين الشجيرات في الحديقة..

التطوع بذرة الخير التي غرست في النفس بنقاء الفطرة و اقتداء بالحبيب المصطفى..

وهو أبعد ما يكون عن ذلك الفريق التطوعي التي نادى بعمل حفل “خيري” يعاد ريعه لنازحي سوريا..

حفل تعلو فيه أنغام موسيقى الفرح لترقص الفتيات على مواجع النازحين، حفل تملأ فيه بطونهن بأطايب الأطعمة.. ليُتصدق على النازحين بقوت يومهم..

..

“رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية”

التدوينة صوتية:
https://soundcloud.com/user-63940429/i53lzhqvfcj0