ممتلئة، الكلمة الوحيدة التي استطيع وصفها فيها، ممتلئة بماذا؟ بالكثير..  ربما بالمشاعر المختلطة التي يصعب استكشافها.. ربما بهموم العيش المتراكمة وإجهاد العمل، ربما بذرات الهواء الذي تستنشقها بين الفينة و الأخرى لتعيد شحن طاقتها لتستمر بالصمود، إني لأجس ذلك من ملامحها التي لا تكاد تتغير، وجه أبيض مستدير، عينان ضيقتان، ابتسامة عجيبة لا تكاد تختفي..

أراها بإيجابية بالغة تتعامل مع الوضع.. لا تتأفف، تبدو سعيدة جدا جدا.. رأيت عليها وميضا من أخلاق المسلمين.. غير أنها ليست مسلمة للأسف..

في ركن صغير من مطعم الجامعة، تتجمع الطالبات لتعد لهن شطيرة (ساندويش) محشو حسب الطلب..

-التالي رجاءً..

تخرج الرغيف بالمواصفات المطلوبة بالسكين الكبيرة تشطره، لتحشوه حسب ما ستملل عليها الزبونة، وبدقة كبيرة واتقان حاذق.. تتأكد أن كل شيء جيد، الرغيف ليس باليا والحشوة التي عادة ما تكون كثيرة محشوة بشكل جيد والرغيف مغلق عليها بإحكام..  لتضعه في قلب الجهاز التحمير (الشواية).. لتخرجه وتقسمه إلى نصفين. ثم تخرج منديلا وترفع سلة النفايات لتزيل ما تبقى من آثار الرغيف فيعود المكان نظيفا لاستقبال الطلب التالي، وتنادي: التالي رجاءً..

تتكرر العملية في اليوم أكثر من مئة مرة، وتبقى بهدوئها التام وهي توقن أن الكلمات التي تدار حولها بلغة تجهلها ما هي إلا تعليقات ساخطة على أدائها: “بطيئة” “أف” “وبعدين” “خلصينا”

أنفاس التعب تكاد تخرج غير أنها لا تظهر أي شيء، إنها فقط مبتسمة، كأنها تقول في قرارة نفسها: أنا الأفضل، أنا الأحسن، لن أستفيد من إظهار الضجر، وعلي أن لا أخسر الزبائن.

أتوقعها قد حفظت أشكال عدة ترتاد إليها، غير أنها مبرمجة على تطبيق ما يطلب منها دون زيادة أو نقصان ولا أحاديث أخرى. وقفت قليلا قبل أن تقول التالي رجاء توجه بصرها إلى مكان بعيد، كأنها تنتظر أحدا، كأنها تتأكد من شيء ما.. أتوقع أنها بذلك تتظاهر لتأخذ نفسا فحسب، وتكسر روتينها لتثبت لنفسها أنها ليست “آلة”

حان دوري بعد انتظار طويل.. التفت إلي وتلك الابتسامة كما هي، ملامحها لم تتغير..

-كيف حالكِ؟

كان سؤالي لها مباغتا وكافيا لتتغير تلك الملامح فتعود إنسانا تعبر عنه ملامحه، ابتسمت ابتسامة ساحرة وأجابت:

-بخير، أنا بخير كثير وجدا..

سريعا ما تغيرت الملامح وأظهرت المكنون..

-العمل هنا شاق ومضني، ونحن يجيب علينا العمل لنعيش ولندرس.. نعمل لندرس، ندرس كي لا نجد عملا..

صعقت من استرسالها كأن السد الذي جثم على فؤادها طويلا انزاح، قد كانت عبارة واحدة سألتها فأغنتني أن أسألها عن المزيد لأجعلها تفضفض.

-الحكومة في بلادنا نهابة، أوضاع العيش سيئة عندنا، لكن الحكومة لديكم جيدة جدا وعادلة.

سعدت بإطرائها هذا ولم أعرف ماذا أجيب.

جرى الحديث بسيط و سريع بيننا، شعرت عندها بسعادة غامرة أن تمكنت أن أترك لي عندها أثر..

في الأيام التي تلته كانت كلما رأتني استبشرت، وكشفت عن أساريرها! كنت أضحك من أعماقي كثيرا عندما ألاحظ أنها تتحمس فجأة وتحرك يدها وتنهي من الطلبات التي تسبقني ليحل دوري سريعا، أو تخطأ في الترتيب فتقدم دوري على الأخريات لأجد من صديقاتي “نغزات” (شمعنا أنتِ !) والأدهى أنها أصبحت تلف الشطائر جميعها بالورق المخصوص لأنني أطلب ذلك منها في طلباتي الخاصة (والصاحبات لا يعجبهن ذلك).

كل ذلك لأني سألتنا يوما فقط “كيف حالك”